بقلم الشيخ د. محمد باقر كجكبيروت

سألني بعض الأصدقاء، أنه لماذا اعتبرتُ النصر في فلسطين نصراً ثقافياً من الطراز الرفيع؟

في الواقع، الاجابة عن هذا السؤال يحتاجُ لشيء من التوضيح.. لمن يحب.

سأبدأ أولاً، مع العنف الكولونيالي، الاستعمار بوجهه العسكري المباشر في شقه الأقصى الذي يستهدف احتلال ارض، والاستيطان فيها، وممارسة الاقصاء الجسدي الأكثر إضراراً بأهل الأرض المستعمَرة، وكذلك تنويع أدوات السيطرة الثقافية (فرض اللغة، الدين ومنع الطقوس الدينية، تغيير أسماء المدن والقرى والطعام والثياب، استلاب الموسيقى والفنون والآداب..ألخ)، إضافة إلى فرض نسق اقتصادي جديد يعيد ترتيب منطق تقسيم العمل من جديد وفق بروز جماعة قوة عسكرية سياسية اقتصادية جديدة تستغل السكان الأصليين وغيرهم اقتصادياً بالدرجة الأولى ثم تتشظى تأثيرات ذلك في العلاقات الاجتماعية والسياسية الخ.

ومع ذلك، ومع أن العنف الكولونيالي هو جسديٌّ وبارزٌ وقاسٍ ومدمرٌ، ويعتمد على مفاتيح سلطة مباشرة وغير تفاوضية، وغير منتمية للبيئة الثقافية المستعمَر: يعني هي لا تستخدم على سبيل المثال، طقوس الهبة. 

الهبةُ، تعتمد على البذل والبذل المقابل، الهبة المقابلة، في منطق تبادل جبري بين المتبادليْن. أنتَ تعطيني، فتضعني في موقفٍ لا بد أن أبادلك بالأفضل. وهكذا تستمر دوائر الهبة.. وتكبرُ الموْنةُ والسلطة والخضوع والعنف المتقابل بيننا.

ولكن، المستعمِر، لا يبادل، لا يعطيك شيئاً. يأخذ. ويهبكَ السّلب والنقص. يأتي المستعمر على أعلى هرم السطوة، بقوة السلاح واحتمال التسبيب بالموت لك، ثم يأخذ منك دون توقف.

المستعمر، يبادلك أمراً واحداً، وهو شأن رمزيٌ. يأخذُ شخصيتك الثقافية (والانسان كائن ثقافي).  ويعطيك، إمكانية البقاء “حياً” بيولوجياً في سبيل تحقيق أهداف المستعمر وحاجاته “الجسدية”والاقتصادية الخ.

إلا أن عنفه هذا يعدُّ مرناً في قبال عنف أكثر وحشية.

يمارس المستعمر العنف الجسدي لوقت طويل، كمعبر ضرور لممارسة عنف ثقافي طويل المدى بشكل ثابت وفعال. لقد مارس المستعمرون الأسبان ذلك في المكسيك، وفنزويلا وبوليفيا، والمستعمرون الأميركيون ذلك في البلاد الأصلية للهنود الحمر (تسمية هنود الحمر هي تسمية عنفية استعمارية)، وغيرهم.. المجازر والتصفيات والتطهير العرقي والجسدي الذي تم، كان معبراً في نهاية الأمر، إلى تحقيق حالة استسلامٍ طويلة الأمد عند المستعمَرين، تكفل للمستعمِر القيام وعبر آليات التنشئة الاجتماعية وتقسيم العمل وضخ الرساميل الثقافية الخاصة به، أن يطوّع الناس الأصليين ويجعلهم تابعين على الهامش الثقافي كمجموعات مستسلمة او ردة فعل على المستعمِر.

 العنف الحقيقي، هو العنف الثقافي. لأنه “يمحو” الذات المستعمَرة. يسلبها كيانها. يمنعها حقّ المبادرة، والاكتشاف، والمعرفة، والحياة، والإبداع، وتحديد احتياجاتها والوصول إلى أهدافها إلخ.

 العنف الحقيقي، هو العنف الثقافي. لأنه “يمحو” الذات المستعمَرة. يسلبها كيانها. يمنعها حقّ المبادرة، والاكتشاف، والمعرفة، والحياة، والإبداع، وتحديد احتياجاتها والوصول إلى أهدافها

فإذا عاد المستعمر إلى ممارسة العنف الجسدي، فهو أمرٌ مبشّر، لأنه يدل على أنه لم يستطع عبر التطبيع الثقافي، والعنف الثقافي، أن يفلس الرأسمال الثقافي للمستعمَرين. وبالتالي، لن يستطيع أن يأخذ منهم بالقوة “شخصياتهم الثقافية”. تصبح الهبة أمراً مستحيلاً. فيعود للعنف الجسدي، كي يضع المستعمَرين أمام حقيقة إعطائهم الحياة: مقابل الموت الجسدي. المرحلة البسيطة الأولية من شريعة الغاب.

إذا عاد المستعمر إلى العنف الجسدي الأقصى، فهذا بحد ذاته يعد إنجازاً ونجاحاً للمستعمَر.. هناك أمرٌ جيد حصل، وخربط خريطة السطوة عن المستعمر.

العنف الأكثر وحشية

لكن، العنف الأكثر وحشية، هو عنف جماعة سطوة الاستسلام.

تأتي جماعة الاستسلام للمستعمر، في المرحلة التالية بعد الخسارة أمام العنف الجسدي للمستعمِر، ومن باب تحويلها إلى جماعة وظيفيةٍ في خدمة الرأسمال الثقافي للمستعمِر في إحكام قبضته على البلاد والعباد، تأتي هذه الجماعة إلى ممارسة سطوةٍ “رمزية” بديلة غير أصيلة.

السطوة، والسلطة، يأتيان نتيجة سيادة أنماط من العنف، كأسطورة البطل، وديناميكية إستغلال القاتل/الضحية، وثنائية الجسد/العقل، وأسطورة الكاوبوي، وأسطورة الفردية التنافسية، ونظرية العنف الفطري، وأسطورة العدوان الذكوري، والمجمع الصناعي العسكري، والحتمية التكنولوجية (خاصة التكنولوجيا المدمرة)، وأساطير دينية، وإخضاع النساء، وأسطورة تفوق العقلانية على العاطفة والإبداع، وأسطورة نخبوية الجنس البشري..الخ

العنف الأكثر وحشية، هو عنف جماعة سطوة الاستسلام.
لقد تململ الناس في القدس، والضفة، والداخل الفلسطيني، والشتات.. من حشرهم في أقصى زوايا البقاء البيولوجي والجسدي تحت نظر جماعة سطوة الاستسلام.

العنف، تنتجه الجماعة، تنظمه، تمنع من تفاقمه كي لا يبيدها، تديره كي يبقيها حية، ومنتجةً. تولّد الجماعة اللاعنف أيضاً، في مقابل العنف، لأن “التحضر” يقتضي “منع الافراط في العنف” كما يقول فرويد.. فتوجهه ضد “المجرمين” “والعنف غير الشرعي”.

يقوم المستعمِر، بتحويل مهمة ممارسة العنف الجسدي والسياسي على الجماعة المستعمَرة، إلى مجموعة مولّدة وهجينة من أبناء الجماعة المستعمَرة أنفسهم. هذه الجماعة، تجلس على هرم السطوة والسلطة والعنف: دون تدرّج من طبيعة الحياة الاجتماعية الخاصة بالجماعة.

“يهبها” المستعمر “السطوة”، ويطلب منها “المقابل”. المقابل: أن تضمن هذه المجموعة “استسلام” الجماعة المستعمَرة الدائم.

هكذا هي جماعة سطوة الاستسلام. جماعة وظيفية محدودة، مصابة بعجزٍ تكويني فادح في فقدانها القدرة على العيش خارج شباك الصياد.

تجد جماعة سطوة الاستسلام نفسها أمام ضرورات حادة ومستجدة: ضرورة خلق تبريرات الاستسلام، تجميل الاستسلام، تطبيع الاستسلام، جعل الاستسلام ثقافة، محو بدائل الاستسلام، الترويج للاعنف كحل أصيل لمواجهة العنف، التنازل عن الأرض، التفاوض على اللغة والرموز الثقافية..

كل شيء يبقي هذه الجماعة في سدة سطوة الاستسلام، هو متاح للبيع والهبة.

جماعة سطوة الإستسلام، تمارس أبشع أنواع العنف على جماعتها: الخيانة. وتبرير الخيانة. وتجميل الخيانة.

والخيانة مشروع قتلٍ له طابع شرعي: لأن الذي يقوم بمحوكَ ثقافياً، هو منك وفيك.

والخيانة مشروع قتلٍ له طابع شرعي: لأن الذي يقوم بمحوكَ ثقافياً، هو منك وفيك.

لماذا أعد النصر في فلسطين نصرا ثقافيا من الطراز الرفيع؟

هناك عدة أسباب، سأتحدث عن السبب الأول هنا:

التحرّر من سطوة الاستسلام

هذه المرة، وقفت السيدة في حارة الشيخ جراح، لتتساءل عن سرقة يعقوب لبيتها. أثار تبرير يعقوب بأنه لو لم يسرق بيتها فسيأتي من يسرقه منها، فما الفرق بينه وبين غيره؟

لقد عاد يعقوب إلى دائرة الاستعمار الأولى: ممارسة العنف الجسدي بالقوة. سلب المنزل بالقوة. سلب الأرض بالقوة.

إلا أن تبريره لذلك، كان يستند إلى رأسمال ثقافي تم فرضه بقوة جماعة سطوة الاستسلام: سلطة اوسلو، التي وضعت نفسها كممثل لحقوق الناس، وقد قامت هذه الجماعة بتطويع ناسها عبر عقود على فكرة التنازل عن الأرض مقابل السلام.. لقد تم تهجير عدد كبير من الفلسطينيين تحت نظر سلطة أوسلو. في ظل أنها تمنع الناس من استخدام العنف  المسلح ضد عنف الاستعمار الاسرائيلي. لأنَّ سلطة أوسلو تمثل “العنف الشرعي” (الشرعي الذي أتى من الاتفاقيات وليس من شرعية كونه نتاجاً لعمليات اجتماعية طبيعية).

لقد تململ الناس في القدس، والضفة، والداخل الفلسطيني، والشتات.. من حشرهم في أقصى زوايا البقاء البيولوجي والجسدي تحت نظر جماعة سطوة الاستسلام. ثم تم الدفع رويدا رويداً، وعبر نداءات الغريزة الأولية في أي إنسان، إلى إعادة تشريع ممارسة العنف كحق ذاتي: التظاهر في الشوارع واحتلال الفضاء العام، استخدام الحجارة، احراق الاطارات، مواجهة قوى أمن السلطة، وشرطة الاحتلال.. وهكذا أدى سياق الأمور، إلى إعادة توليد فضاء ثقافي جديد ينادي بوضع حد لهذا العنف (في صورة سرقة البيوت في حي الشيخ جراح)… لتتدحرج الأمور أكثر إلى استخدام السلاح والصواريخ، والسكاكين، والدهس، وإحراق البيوت، وكل ما أمكن من أدوات العنف، في وجه المستعمر الأصلي.

إن إعادة بوصلة العنف، وحق ممارسته (وإزاحة سلطة سطوة الاستسلام من أي دورٍ كلياً!!) باتجاه الشعب الفلسطيني، ومبادرته وبشكل موحد ومتناغم في كافة أدوات تعبيره ومقاومته، يعدّ بالنسبة إليّ عملاً ثقافيا أصيلاً، لأنه يعيد ترتيب منطق الهبة والسلطة والسطوة ويحذف الدخيل والعميل.

لقد، أظهرت هذه الحركة، فشل توزيع العدو لأدوار الرأسمال الثقافي بأدواته السياسية والتربوية والاجتماعية والأمنية، بيد سلطة أوسلو وغيرهم من مؤسسات المجتمع الدولي وال NGO’s التابعة له. ثار الكل، حتى الذي حاولوا مسح لغته، وثقافته، ودرس في جامعاتهم ومدارسهم، وعمل في مصانعهم، أو تمت محاصرته في الأحياء المختلطة..الخ.

هذا النصر الجديد، هو نصرٌ في الفكرة، وفي التنفيذ، وفي النجاح في رفع يد المحتل: الثقافية، وكذلك الجسدية عنه. لقد سلب هذا النصر، الأدوات التقليدية للعنف وغير التقليدية أيضاً، من يد المحتل والمختل والعميل معاً.

لقد تغير الخطاب. الفلسطينيون جميعاً، خرجوا من خطاب السطوة الماضية، إلى خطاب العنف المبادر.

(يتبع)

#GazaUnderAttack

 #SaveSheikhJarrah

#Gaza

#Palestine