في فلسطين، لا حدٌّ فاصلٌ واضحٌ بين داخل السجن وخارجه، وما نسميه سجناََ هو حالة ضرورية لكي يشعر من هم “خارجه” بالحريّة الممنوحة لهم، حريّة التنقل والسفر والعبور، فلا حريّة تحت نير الاستعمار وإنما امتيازات وعطايا من النظام الاستعماري، يصاحبها قلق دائم من فقدانها، ومقايضة الحريّة بالخضوع “الحُر”.

الهروب من السجن

يتربّع الهارب من السجن في عقل كلّ مصمم للسجون، حيث يُصمَم المكان بأدق تفاصيله لينطق حاله بأنّ الهرب مستحيلٌ وأنّه لا أمل منه. وعادةً ما يتمّ استخدام عبارة أنّ الهرب مستحيلٌ من هذا السجن عند تدشين كلّ سجن جديد، وعادة ما تُثبت الوقائع العكس. ومن هنا لا تقتصر تبعات ونتائج نجاح عملية الهرب على المستوى الفرديّ للفرد أو المجموعة الهاربة، وإنما تبعاتها الأهم تكمن في تأكيد عبثيّة مسعى الوصول إلى منظومة السيطرة الكاملة.

لم تكن محاولات الهروب من السجن غريبةً أو دخيلةً على عالم السجون، ففكرة السجن توازيها بالضرورة فكرة الحريّة، وقمّة تجلّي فكرة الحرية تكون في محاولات اختراق المنظومة الأمنية من داخلها، فدائماً ما تبحث الفطرة الإنسانية عن الحرية. وقد تعدّدت مظاهر هذا البحث المحموم، حيثُ بدأت بالهروب المعنويّ، ولا نبالغ لو قلنا أنّ أول محاولة هروب ينفّذها كلّ سجينٍ تكون عندما يغلق عينيّه ويحاول تذكّر أحبابه وأرضه، وتخيّل ما يكونان عليه وهو وراء القضبان متناسياً جحيم زنزانته.

ثمّ كانت محاولات تهريب الأقلام والدفاتر والكتب للقراءة والدراسة، وتحويل الجدارن التي هدفت بالأساس لقتل الأسير إلى مكتباتٍ علميةٍ وحيّزٍ ثوريّ مهمٍ في التعبئة والتنظيم والحشد والتحريك بدلاً من التفريغ والتحطيم. ثمّ تطورت أشكال الهروب من واقع السجن لتشمل تهريب الرسائل عبر “الكبسولات” والهواتف، والنُطف لإنجاب الأطفال، لتتكلل قمة هذا البحث بالهروب من السجن فيزيائياً، أيّ بالعقل والجسد، معتمدين على قوّتين أساسيتين: الإرادة، ومقولة أنّ كلّ منظومةٍ أمنيةٍ تحمل في داخلها طريقة اختراقها مهما كانت معقدةً.

من سيّر الهاربين إلى الحريّة

يجلسُ بهدوءٍ وترقّب بين جموع المصلين، يلتقطُ بسمعه وبصره وكلّ حواسه ما يقوله خطيبُ مسجد الاستقلال عزّ الدين القسام عن الجهاد والاستشهاد، حتى أصبح من تلامذته وأتباعه في الكفاح والجهاد. هو الشيخ المجاهد يوسف سعيد جرادات، والمعروف باسم “أبو درّة”. وُلد في قرية السيلة الحارثية غرب مدينة جنين عام 1900، واشتغل في بداية حياته في الزراعة، ومن ثمّ انتقل للعيش في حيفا حيث عمل في السّكة الحديدية.

وفي حيفا، التقى “أبو درّة” بالشيخ عزّ الدين القسّام، وانضمّ إلى جماعته. وهناك في أحراج يعبد، قاتل “أبو درّة” جنباً إلى جنب مع معلمه وقائده في المعركة التي استُشهد فيها القسّام مع عددٌ من رفاقه في العام 1935، إلا أن “أبو درّة” استطاع يومها الإفلات منهم والخروج من المنطقة بسلامة.

عندما قامت الثورة الفلسطينية الكبرى في العام 1936، التحق “أبو درة” بصفوفها، وذلك تحت قيادة المناضل الشيخ عطية أحمد عوض، قائدُ منطقة جنين. وشارك خلال الثورة في العدد من المعارك في منطقتي جنين وحيفا، وشمل ذلك مهاجمة المستعمرات الصهيونية ونصب الكمائن للعصابات الصهيونية والقوات البريطانية. ولقد لمع اسم المناضل الشهيد أبو درة بشكل خاصّ عندما استطاع عام 1937 لفترة زمنية محددة تحرير مناطق من قضاء جنين وقضاء الناصرة وبعض قرى جبل الكرمل.

في تلك الأثناء، كان المناضل يوسف حمدان قائداً لأحد فصائل الثورة في منطقة أم الفحم، ويتألف فصيله من 15 رجلاً، وكان حمدان يعمل تحت إمرة الشيخ عطية أحمد عوض كذلك، مثله مثل “أبو درّة”. بعد أن استشهد الشيخ عطية في معركة اليامون في آذار من العام 1938 بأشهرٍ قليلةٍ، اعتقلتْ قوات الاستعمار البريطاني المناضل حمدان وزجّت به في سجن عتليت انتظاراً لمحاكمته. لكنه لم يستسلم، ونجح في الهروب، وانضمّ إلى مجموعة القائد “أبو درّة”، الذي كان حينها قائداً للثورة في منطقتي حيفا وجنين، وأصبح حمدان نائباً لـ “أبي درّة”، وشاركا معاً في واحدةٍ من أبرز معارك الهروب من السجن في تاريخ الفلسطينيين.

تحرير أسرى سجن عتليت

في واحدةٍ من أبرز المعارك التي خاضها الفلسطينيون خلال الثورة الفلسطينية الكبرى، وتحديداً في 16/7/1938،  هاجم نحو مئتين من رجال القائد “أبو درّة” سجن عتليت البريطاني، الواقع إلى الجنوب من مدينة حيفا، وذلك بقيادة سليم الصعبي من قرية عين غزال وإشراف يوسف حمدان.

بدأت المعركة باحتلال منزلٍ يبعدُ عن السجن 300م من جهة الشمال، بينما قام عددٌ آخرٌ من الثوار بإطلاق النار على مراكز حرّاس السجن فقتلوهم. وكَمَن ثوارٌ آخرون للنجدات البريطانية القادمة من حيفا، واشتبك آخرون  مع النجدات البريطانية القادمة من الجنوب.

استمرّت المعركة ثلاث ساعات، انسحب بعدها الثوار إلى جبل الكرمل بعد أن قتلوا عشرين بريطانيّاً وضابطاً يهوديّاً. واستُشهد من الثوار محمد قاسم الشواهين من قباطية. وتروي المصادر القليلة التي بين أيدينا عن هذه المعركة، أنّ يوسف حمدان أشرف على أسر نائب مدير السجن حينها “لزاروفيتس” وزوجته وصهره وأطفاله الثلاثة، وأطلق “أبو درّة” فيما بعد سراح الأطفال الثلاثة، وقدّم الثلاثة الآخرين للمحاكمة الثورية، ومن ثمّ نفّذ بحقّهم حكم الإعدام.

وقد قال شاعر الثورة ابراهيم نوح في أبي درة:

“فلسطين لا تفزعي، نجمك في السما درّة.. حولك فوارس يوم المواقع درّة ما يهابوا الموت ولو ما بقي ذرّة.. ثوار حايزين النصر صيتهم بالدنيا لمع.. يهاجموا الأعداء وسيوفهم تضوي لمع.. إسلام ونصارى نجمهم بالسماء لمع.. يا ربّ نصرك ما دام رئيسهم أبو درّة”.

(هذا المقال كتب ونشر على موقع باب الواد وتمّ إعادة نشره في هذا الملف بتصرّف)