لا يسعنا ونحن نرى صور الشهداء والشهيدات من أطفال غزة مصفوفة فوق ركام المنازل المدمّرة وطبقات البنايات والأبراج التي سوّت صواريخ الاحتلال المتطوّرة أسقفها بأرضياتها إلّا أن نستذكر حديث مدير عمليات الأونروا في قطاع غزة “ماتياس شمالي” بعد العدوان الأخير في أيار الماضي “أنا لست خبيرا عسكريا؛ لكن من وجهة نظري هناك دقة عالية في قصف الجيش الإسرائيلي خلال الأيام الـ11 الماضية”.

صحيح ما قاله شمالي، فهذه الدقّة العالية في القصف هي التي تعمّدت استهداف المدنيين والأبرياء طيلة 11 يوماً من أيام العدوان واوقعت ما يزيد على 67 طفلاً شهيداً ومئات الأطفال الجرحى فضلاً عن المدنيين من نساء وشيوخ ورجال عزّل كانوا يحتمون بين جدران بيوتهم.

هذه الدقة العالية التي يفاخر بها الاحتلال على وسائل الإعلام العالمية، والتي تضيف إليها أبواقه الإعلامية هالة من الإنسانية والملائكية تتجلّى في الصواريخ التحذيرية التي كان الاحتلال يطلقها على بعض أهدافه قبل استهدافها بشكل كامل ببضع دقائق، هي نموذج موصوف عن الفبركة الإعلامية الدعائية التي تعمل في خدمة جيش الاحتلال من مراسلين ومذيعين وصحافيين ووسائل إعلامية.

67 وجهاً بريئاً سيشهدون إلى الأبد على دقّة الكذب في الرواية الصهيونية للأحداث في فلسطين، وهي عيّنة تشكّل نموذجاً عن التعاطي الإعلامي المضلّل مع القضية الفلسطينية والإنحياز إلى الصهاينة. تعاطٍ تحرص الوسائل الإعلامية الكبرى المموّلة بمعظمها من شبكات دعم الاحتلال العالمية عبره على تلميع صورة الاحتلال في أعين العالم الغربي بشكل أساسي، والعربي للأسف بشكل ثانوي اليوم بعدما تولّت وسائل الإعلام العربية التابعة لأنظمة التطبيع عملية اجترار الرواية الإسرائيلية واستفراغها على شاشاتها الصفراء، مستضيفة ضيفاً إسرئيلياً للتعليق على العدوان تارةً، ومتبنّية الرواية الأخرى في تسمية المقاومين الفلسطينيين بالإرهابيين تارةً أخرى، أو عبر تبرير القصف للأحياء السكنية بكونها تحوي وسائل قتالية وغير ذلك ممّا يوزّعه جهاز الدعاية في جيش الاحتلال من صفحات جاهزة تتضمّن أبرز ما يجب على الإعلاميين المرتزقين له أن يركّزوا عليه في خطابهم ورسائلهم.

طبعاً، شكّل الفضاء الإلكتروني هذه المرّة فارقاً كبيراً؛ في حرب غزة الأخيرة مالت الكفّة – رغم كلّ هذا الضخّ والانحياز والتمويل الهائل والضغوطات – نحو الفلسطينيين! شكّلت وسائل التواصل الإجتماعي هذه المرّة وسيلة لجعل العالم كلّه يتفاعل مع الحدث الفلسطيني لحظة بلحظة، وهي أزمة لم يستطع وزير حرب الاحتلال بني غانتس أن يتجاوزها حتى رغم اجتماعه في وسط الحرب مع ممثلي فيسبوك وتيكتوك وتويتر.

مئات ملايين التفاعلات وآلاف المشاهير والشخصيات المؤثرة بمختلف اللغات ومن مختلف الجنسيات والخلفيات تضامنوا مع فلسطين والشعب الفلسطيني كلّ بطريقته وأفكاره ومشاعره الخاصة، بينما عجز الاحتلال عن خلق أي حالة من التضامن الشعبي مع إرهابه وإجرامه بحقّ الشعب الفلسطيني في القدس والشيخ جراح وغزة ما عدا بعض الحكومات البائسة كالنمسا وأستراليا وبعض الشخصيات المرتزقة التي لم تسلم من كيل الشتائم والانتقادات على مواقفها حتى اضطرّ بعضها أمام الضغط الشعبي لتغيير موقفه وخطابه!

نعم، مما يؤسف له أن يكون التضامن العربي هو أقلّ زخماً من التضامن الأجنبي، فبدل أن يكون العرب جميعاً يداً واحدةً في مواجهة احتلال وحشي يقتل الأطفال ويهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، انزوى العديد من المشاهير العرب ليغيبوا عن المشهد تماماً أو ليعلنوا مواقف باهتة وعامة وحمّالة أوجه كمن يستحي من إعطاء موقف واضح من إرهاب الاحتلال!

ولكن في نفس الوقت، فقد فاز العديد من مشاهير العرب من فنانين وممثلين وسياسيين باحترام الشعوب العربية بشكل كبير وصل إلى ملايين الإعجابات والتفاعلات بعدما لم يبخلوا بصوتهم وموقفهم في إعلان الدعم الكامل لحقّ الشعب الفلسطيني في الحرية ومقاومة الاحتلال المجرم. أمّا على صعيد التضامن الأجنبي، فقد سجّلت هذه الموجة من الحرب خرقاً نوعياً تمثّل بشكل واضح في حملات عالمية غير منسّقة بادر إليها فنانون وممثلون ومشاهير كبار على مستوى العالم لم يتوانوا عن التضامن مع فلسطين وانتقاد إجرام الاحتلال بحق شعبها وأرضها.

لا شكّ أنّ البناء على هذه المعطيات الجديدة واجبٌ، فالاحتلال يعتبر صورته أمام الرأي العام العالمي هي أولوية وقضية وجودية استراتيجية تمسّ أمنه القومي، وأنّ المساس بصورته الحضارية أمام دول العالم يعني حكماً انتهاء قدرته على التصرّف العدائي بلا حسيب ولا رقيب تجاه العرب والفلسطينيين شعباً وأرضاً.

في ما يلي سنقدّم لكم، على عدّة مقالات، مختصر دراسة مفصّلة حول تأثير وسائل التواصل على المعركة مع الاحتلال، من إعداد فريق من الباحثين في مركز الاتحاد للبحوث.